غباوة اليهود وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل سلافهم ووغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي سنعته أيديهم من ذهب ومن عبادتهم أن جعلوه على صورةأبلد الحيوان وأقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد كيف عبدوا مع اله إلهاً آخر وقد شاهدوا من أدل التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم؟! وإذ عزموا على اتخاذ غله دون الله اتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته ! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الملائكة المقربين ولا من الأحياء الناطقين بل اتخذوه من الجمادات! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم بل من الجواهر الأرضيية! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض علاية عليها كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار عالية عليها! وإذ قد فعلوا لم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوهاً مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه!
إذا قد فعلوا لم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان ارضي.
وإذا قد فعلوا لم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعاً من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه الأرض ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير.
فأي معرفة هؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات؟ وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلهاً فيعبد إلهاً مجعولاً بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماؤه وصفاته ونعوته ودينه ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقه.
ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، ولا قالوا له اذهب أنت وربك فقاتلا ولا قتلوا نفساً وطرحوا المقتول علىأبواب البراء من قتله نيهم حي بين أظهرهم وخبر السماء والوحي يأتيه صباحاً ومساءً فكأنهم جوزوا أن يخفي هذا على الله كما يخفى على الناس؟! ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له يا ابانا انتبه من رقدتك ، كم تنام.
ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم ولما تحيلوا على تحليل محارمه واسقاط فرائضه بأنواع الحيل.
ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة أن يأمر بالشئ في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة وتبدله بما هو خير منه وينتهي عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد كما هو مشاهد في احكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبديلها واختلافها بحسب الحوال والأوقات والأماكن فلو اعتمد طبب أن لا يغير الأدوية والأغذية بحسب اختلاف الزمان والأماكن والحوال لأهلك الحرث والنسل وعد من الجهال فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟!
وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه؟ ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجداً ويقولوا حطة ، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم فدخلوا يزحفون على أستاههم بدل السجود لله، ويقولون : هنطا سقمانا أي حنطة سمراء فذلك سجودهم وخشوعهم وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم.
ومن جهلهم وغباوتهم أن الله سبحانه أراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا ميد عليه ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد إليهم فيه عهده وأمرهم أن يأخذوه بقوة فيعيدوه بما فيه كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط فأتوا أن يقبلوا ذلك وامتنعوا منه فتنق الجبل العظيم فوق رؤوسهم على قدرهم وقيل لهم إن لم تقبلوا أطبقته عليهم فقبلوه من تحت الجبل.
قال ابن عباس : رفع الله الجبل فوق رؤوسهم وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر من تحتهم وتودوا إن لم تقبلوا أرضختكم بهذا وأحرقتكم بهذا وأغرقتكم بهذا فقبلوه وقالوا سمعنا وأطعنا وللولا الحبل ما اطعناك ولما أمنوا بعد ذلك قالوا سمعنا وعصينا .
ومن جهلهم انهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن بعلى بعضها البشر ثم قالوا بعد ذلك: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .
وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلاً لميقاته فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل فلما دنى موسى من الجبل وقععليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل وقال للقوم ادنوا ودنى القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب وقعوا سجداً فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى ويأمره وينهاه ويعهد إليه فلما انكشف الغمام قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة .
ومن جهلهم أن هارون لما مات ودفنه موسى قالت بنو اسرائيل لموسى انت قتلته حسدته على خلقه ولينه ومحبة بني أسرائيل له قال فاختاروا سبعين رجلاً فوقفوا على قبر هارون فقال موسى يا هارون أقتلت أم مت؟ قال بل مت وما قتلني أحد.
فحسبك من جهالة أمة جفائهم أنهم اتهموا نبيهم وسبوه إلى قتل أخيه فقال موسى ما قتلته فلم يصدقوه حتى أسمعهم كلامه وبراءة أخيه مما رموه به.
ومن جهلهم أن الله سبحانه شبههم في حملهم التوراة وعدم الفقه فيها والعمل بها بالحمار يحمل أسفاراً وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة : (منها) أن الحمار من ابلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلادة.
)ومنها) أنه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علف أو ماء لكان له به شعور بخلاف الأسفار.
)ومنها) أنهم حملوها لا أنهم حملوها طوعاً واختياراً بل كانوا كالمكلفين لما حملوه لم يرفعوا به رأساً.
(ومنها) أنهم حيث حملوهاتكليفاً وقهراً لم يرضوا بهاولم يحملوها رضا واختياراً وقد علموا أنهم لا بد لهم منها وأنهم إن حملوها اختياراً كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
(ومنها) أنها مشتملة على مصالح معاشهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة فإعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم وفلاحهم إلى ضده منغاي الجهل والغباوة وعدم الفطانة.
ومن جهلهم وقلة معرفتهم أنهم طلبوا عوض المن والسلوى اللذين هما أطيب الأطعمة وأنفعها وأوفقها للغذاء الصالح : البقل والقثاء الثوم العدس والبصل ، ومن رضي باستبدال هذه الأغذية عوضاً عن المن والسلوى لم يكر عليه أن يستبدل الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى والغضب بالرضى والعقوبة بالرحمة وهذه حال ن لم يعرف ربه ولا كتابه ولا رسوله ولا نفسه.
وأما نقضهم ميثاقهم وتبديلهم أحكام التوراة وتحريفهم الكلم عن مواضعه وأكلهم الراب وقد نهوا عنه وأكلهم الرشا واعتدائهم في السبت حتى مسخوا قردة وقتلهم الأنبياء بغير حق وتكذيبهم عيسى ابن مريم رسول الله ورميهم له ولأمه بالعظائم وحرصهم على قتله وتفردهم دون الأمم بالخبث والبهت وشدة تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها وقسوة قلوبهم وحسدهم وكثرة سخرهم فإليه النهاية.
وهذا وأضعافه من الجهل وفساد العقل قليل على من كذب رسل الله وجاهر بمعاداته ومعاداة ملائكته وأنبياءه وأهل ولايته فأي شئ عرف من لم يعرف الله ورسله؟ وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة ؟ وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق المولة اليه ومآله بعد الوصول اليه.
فأهل الأرض كلهم في ظلمات الجهل والغير إلا من أشرف عليه نور النبوة كما في المسند وغيره من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله خلق خلقه في ظلمة ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله .